شرح دعاء مكارم الأخلاق (2)

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك.

 

"اللهم صل على محمد وآله، وبلغ بإيماني أكمل الإيمان واجعل يقيني أفضل اليقين، وأنته بنيتي إلى أحسن النيات وبعملي إلى أحسن الأعمال، اللهم وفِّر بلطفك نيَّتي، وصحِّح بما عندك يقيني"(1).

 

كنا قد تحدثنا -في الجلسة السابقة- حول الفقرة الأولى من الفقرات الواردة في دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (ع).

 

فقد تحدثنا حول معنى الإيمان، ومراتبه، ثم حاولنا أن نلقي شيئاً من الضوء على معنى قول الإمام السجاد: "وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان". وذلك من خلال بيان المراد من أكمل الإيمان، وكيف يتوفر الإنسان على هذه المرتبة السامية.

 

الفقرة الثانية: "واجعل يقيني أفضل اليقين"

ونتحدث -إن شاء الله تعالى- في هذه الجلسة حول الفقرة الثانية من دعائه (ع)، وهي قوله: "واجعل يقيني أفضل اليقين".

 

معنى اليقين:

ما هو المراد من اليقين الذي عبَّر عنه الإمام علي (ع) بأنه عماد الإيمان، وأنه ملاك الإيمان، وأنه الإيمان كله(2)، وعبَّر عنه أيضا (ع) بأنه العبادة، وأنَّه ما عُبِد الله عز وجل بأفضل من اليقين(3). فما هو المراد من اليقين؟.

 

اليقين -بحسب معناه العرفي-: هو عبارة عن البصيرة التامة، والرؤية الكاملة للشيء، والمنتجة للإطمئنان، وثبات القلب. فصاحب اليقين هو صاحب البصيرة، وصاحب اليقين هو صاحب الرؤية الثاقبة، وصاحب اليقين هو المُصدِّق والمذعن بالشيء. فأنْ أكون متيقنا بوجود النار -مثلا- فهذا معناه القطع، والإطمئنان، بأن النار موجودة، فلا ينتابني في ذلك ريب أو شك، ولو أقسم عندي ألفُ رجلٍ موثوق على أنها ليست موجودة لما صدقتهم؛ وذلك لأني أرى النار رأي عين.

 

لذلك عبَّرت الروايات في مقام تفسير اليقين بأنه المعاينة، أو ما ينتج عن المعاينة .. فقد لا يكون المتيقَّن به معايناً ومشاهَداً، ولكن اطمئنانه بوجود المتيقَّن كاطمئنان المعايِن والمشاهِد. لذلك لما سُئل أمير المؤمنين (ع): هل رأيت ربَّك؟، قال له: ويحك، وهل أعبد رباًّ لم أره؟! إنه لم تره العيون، ولكن رأته القلوب(4). فالقلب مطمئن، راسخ الثبات، ويقطع قطعا تاماًّ بوجود معبوده، ولا ينتابه شك أو ريب .. لذلك كان (ع) يقول: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينا"(5)، فسواءٌ عند علي بن أبي طالب أن يُعاين الجنة، أو لا يعاينها؛ فهو على يقين منها .. وسواء عاين النار، أم لم يعاينها؛ فهو على يقين بها. هذا هو معنى اليقين، فهو بصيرة بمستوى المعاينة ينتح عنه اطمئنان مستحكم في القلب، بلا ريبة، ولا شكٍ، ولا تأرجُحٍ، ولا تردد.

 

الفرق بين الإيمان واليقين:

الروايات الشريفات كثيراً ما تؤكد على أنَّ الإيمان ثابت في القلب عند أكثر الناس، وأما اليقين فإنه خطرات: يعني أنه قد ينتاب الإنسان اليقين إلا أنه يذهب ويزول ثم يعود وهكذا. فالإيمان يبقى، ولكن اليقين يتأرجح، فتارة يعتري القلب فيستضيء بنوره، ويُصبح -كما أفادت الروايات-(6) كزبر الحديد، أي أنه إذا حصل اليقين في القلب، تصبح نية الإنسان وعقيدته صلبة كصلابة زبر الحديد. وإذا زال اليقين عن القلب، أصبح كالخِرقة البالية.

 

متعلقات اليقين:

اليقين له متعلَّقات كثيرة، منها: اليقين بالله، وبوجوده، وبوحدانيته، وبصفاته، وحسن أسمائه، ويقين بحكمة الله، وعدله، ويقين بصوابية تشريعاته، وأنه لا أكمل من شريعة الله، فهي الكاملة التامة، المناسبة -تمام التناسب- مع ما يُصلح الناس من أول يوم خلق الله الناس وشرَّع لهم الشرائع، إلى آخر يوم، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فما من حلالٍ أحلَّه الله إلا والواقع يقتضي أن يُحِلَّه، وما من حرامٍ حرَّمه الله إلا والواقع يقتضي أن يُحرِّمه.

 

ثمة متعلَّق آخر لليقين: يقين برجال الله، والهداة والأدلاء على الله، وأنَّه ما من أحدٍ أكثر كفاءةً منهم، بعدما اختارهم الله وانتجبهم. فليس من أحدٍ قادر على أن ينوء بالثقل الذي ناء به الأنبياء، والرسل، والأئمة، بأفضل منهم.

 

أنت عندما تكون على يقين بذلك، فأنت على شُعبة من شُعب اليقين.

 

وثمة يقينٌ بصدق الوعد الإلهيّ، وأنَّ الله -عز وجل- إذا وعد عباده، بوعدٍ فإنه سيُنجزه.

 

شيءٌ من التفصيل حول متعلَّقات اليقين:

هذه كلها مُتعلَّقات لليقين، نود أن نتحدث عن بعضها بشيءٍ من التفصيل -بما يتناسب مع المقام-، ونركز على مجموعة من التطبيقات والأمثلة:

 

أولاً: كيف أكون على يقين بعدل الله تعالى؟

عندما تكون على يقين بعدل الله، فإنَّ معنى ذلك أنَّ كلَّ ما يُقدِّره الله ويقضيه فهو مناسب للعدل، ولا جور فيه ولا ظلم، فالحال عندك سواء إن مرضت أو عُوفيت، رُزقت أو مُنعت، وُسَّع عليك في رزقك أو قُدر عليك رزقك، الحال عندك سواء أُصبت بمصيبةٍ أو كنتَ في عافية والحال عندك سواء أحبَّك الناس أو أبغضوك، قدَّروك أو أهانوك، توسَّعت الدنيا في وجهك أو ضاقت، رُزقت أبناءاً أو حُرمت، أُصِبت في حبيبٍ لك أو رُزقت حبيباً جديداً .. كلُّ ذلك عندك سواء من جهة اليقين بأن هذه الأحوال المتناقضة غير منافية للعدل الإلهي.

 

فهي عندك سواء لأنك متيقِّن أنَّ ذلك هو الذي يُصلحك، وأنَّ ذلك لا ينافي عدل الله معك، فالحرمان مما أُعطي الناس لا يبعثك على الشك في عدل الله. وعندما ترى النِّعم تُفاض على الكافرين والمنافقين وأعداءِ الله فإنك لا تتبرَّم .. وهكذا، عندما لا تتبرَّم عند المصيبة، ولا تبطر عند النعمة، تكون ممن أيقن بعدل الله.

 

ثانياً: كيف أكون على يقين بحكمة الله تعالى؟

ما معنى أن تكون على يقينٍ بحكمة الله؟، معناه أن تكون على يقينٍ بحسن تدبير الله عز وجل فيما خلق وقدَّر، وفيما شرَّع. فكل ما يحدث في الكون من سننٍ وقوانين، فإنها مُعبِّرة عن حكمة الله وكل ما شرَّعه فهو معبِّر عن حكمته أيضاً .. فحين تعتقد بذلك، فإنك من أهل اليقين. فاليقين يمعني التسليم، أو من نتائجه التسليم، ومن آثاره التسليم.

 

نلاحظ أنَّ الموقنين يأمرهم الله بما لا يتعقَّلونه ولا يُدركون حكمته، فلا يمنعهم ذلك من الإنقياد إلى الله، مثلاً: يأمرهم بأن يصلوا ثلاث ركعات، ثم يأمرهم بأن يصلوا أربع ركعات، فتجدهم يُسلِّمون بهذا، ويسلِّمون بذاك .. يأمرهم أن يرموا الجمار بسبع حصيات، فيُسلِّمون ويمتثلون .. ويكون للمرأة نصف حظِّ الرجل في الميراث، فتُسلِّم المرأة، ويُسلِّم الرجل .. ويحكم بأن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، فتُسلِّم المرأة، ويٌسلِّم الرجل. لا ينثار تسائل في قلبِ مُوقنٍ، ولا تشكيك في قلبٍ مؤمن في أن هذه التشريعات هل هي مطابقة لمصلحة العباد وهل هي مطابقة للحكمة، فهم على يقين من ذلك. فعندما يكون القلب بارداً حين يُلقى إليه حكم الله، وينقاد إليه بكل رحابة صدر، ويكون مسلِّماً بأن ذلك هو الحق -حتى لو كان مخالفا لمقتضى ما يُدرك- فذلك هو اليقين الموصوف بأنه ملاك الإيمان وعماده. فإذا سمع أنَّ الله تعالى قال: ﴿اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(7)، وأمر الرسول (ص) بالجهاد، فإنَّ المؤمن الذي هو على يقين يعتقد -بلا شكٍ ولا تردد- أنَّ الجهاد هو الذي يُحييه. وإذا ورد أمر بالقصاص، اعتقد بأن ذلك هو الذي يُحييه، وهو الذي يناسب مصلحته، ويُناسب مقتضيات المصلحة العامة. وهكذا، كلُّ أحكام الله، وكلُّ تشريعات الله، وكل ما جاء عن الله، وعن الرسول (ص).

 

نعم قد نسأل، وقد نبحث عن علل بعض الأحكام ومناشئ جعلها، وأنه لماذا حرَّم الله هذا، وأحلَّ هذا؟، وأيُّ فرقٍ بين هاتين الحالتين: هذه شاة قد ذُبِحت وفُريت أوداجها الأربعة، فقال الله عنها أنها حلال .. وتلك ذُبحت وفريت أوداجها الأربعة، فقال هي حرام .. ما الفرق؟، قيل أنَّ هذه ذُبحت على القبلة، وتلك لم تُذبح على القبلة. نحن لا نتعقَّل الفرق، وقد نتعقَّل، ومع ذلك نُسلِّم، فنرمي تلك في القاذورات، ونأكل هذه. فالسؤال للمعرفة إنْ اٌتيحت ولكنَّ القلب منطوٍ على اليقين بأنَّ شريعة الله هي المطابقة للحكمة التامة هذا هو اليقين المحمود.

 

الشك نقيض اليقين

التشكيكات -التي تُثار هنا وهناك- إنما تُثار من قبل غير الموقنين، فمنهم من يُثير الشبهة لأنه لم يبلغ مرتبة اليقين، ومنهم من يُثير الشبهة ليبعث الشك في قلوب الموقنين.

 

هناك الكثير من الأمور والكثير من أسرار الوجود التي لا يدرك الإنسان أبعادها، ولا يعرف سرّ نشأتها، ومع ذلك يُدرك أنها حقائق لا يسعه نكرانها. فهل انحصر الجهل عند الإنسان في ما هو السبب وراء تحريم هذا الشيء، وحلِّية ذاك؟! ولماذا أباح الله تعالى للرجل أن يتزوج بأربع، أو لماذا أمر بقطع يد السارق، ولم يأمر بسجنه -مثلاً-، فثمة الكثير من مناشئ تدبير الله لهذا الخلق وهذا الكون مجهول للإنسان فالإنسان لا يعرف معشار الملايين من المكنونات التي يختزنها هذا الكون .. من يعرف لماذا تُشرق الشمس في المشرق ثم تغرب في جهة المغرب؟! هل استشاركم الله يوم خلق نظام الشمس بهذه الطريقة؟! لماذا الغرور؟! هل استشارك ربُّك حينما خلق لك خمس أصابع في كلِّ يد، ولم يخلق لك عشر أصابع في كل يد؟ هل استشارك يوم جعلك بهذه الخلقة؟ هل استشارك عندما جعل موضع لسانك في هذا الموقع، وجعل موضع معدتك في هذا الموقع، أو موقع قلبك في هذا المكان؟ هل استشارك عندما بسط الأرض، ورفع السماء؟ هل تعرف علَّة دوران الأرض، والشمس والمجرَّات؟ الآن مضى على مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا آلاف -إذا لم تكن ملايين- السنين، ولا زال يجهل الكثير الكثير، وأمامه طريق طويل للتعرف على القليل من أسرار هذا الكون. متى يعرف الإنسان وزنه، وحجمه، وضيق أفقه؟!

 

ثم لماذا يتجشم الإنسان عناء البحث عن ملاكات الأحكام وأسبابها موهماً نفسه أنَّ ذلك هو السبيل لتحصيل اليقين بصوابيتها! الحكيم الذي خلقك بهذه الصورة ولم يستشرك في أن يجعل قوام وجودك هو التنفُّس وجريان الدم في عروقك .. الحكيم الذي خلق هذا الكون العظيم ونظَّمه بهذا التنظيم الرائق والمعقَّد، وجعل الناس أصحاب عقول، وخلق لهم الأنعام والنبات، أفلا يرى الإنسان أنَّ تربة في بقعة من الأرض ذات طبيعة واحدة يبذر فيها ثم تغتذي بماء وسماد، فتخرج فواكه شتَّى، بعضها حامض، وبعضها حلو، وبعضها مرّ، وهيئات مختلفة، أكلٌ مختلف ألوانها وطعومها؟! من الذي صبغها؟ من الذي شكَّلها؟ من الذي لوَّنها؟ هذا الحكيم اقتضت حكمته أن يخلق هذه الأطعمة المتفاوتة في الشكل والطعم واللون والقيمة الغذائية خلقها من لا شيء، إذ أن البذر التي ألقيت في الأرض والماء الذي أجرى على الأرض كان من خلق الله تعالى ثم من الذي نشأ هذه البذور وأنماها حتى صارت أشجاراً ذات ثمار ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ / أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾(8)، ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ / أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ﴾(9).

 

إنّ من يُدرك عظمة الله، ويَعظُمُ الخالق في قلبه، ويعرف حكمته البالغة، لن يشك في تمامية أحكامٍ حكم بها الله تعالى، أوشريعة فرضها.

 

أأنتم أعلم، أم الله؟!

في هذا الزمان، يأتي المقنِّنون ويتبرَّعون بتشريعات من وحي إدراكهم غير مكترثين بما شرَّعه الله لعباده! أنتم أعلم، أم الله؟! هو أعلم بمصلحتكم، هو الذي خلقكم .. يعني الإنسان يصل به الغرور إلى أن يُكابر، فيضع نفسه في مصافِّ الله؛ استكباراً على الله عز وجل! يا أصحاب التشريعات الأرضية، كونوا واقعيين، ألا ترون أنه منذ أن نشأت الحضارات وإلى يومنا هذا، تقوم حضارة وتسقط حضارة، تقوم حضارة وتندثر أخرى، ولكلِّ حضارة قانون ودستور، وهي ترى أنَّ دستورها وقانونها قد بلغ مستوى الكمال، وأن ليس فيه ثغرة، ثم تأتي حقب على نفس تلك الحضارة، فتكتشف أنها بحاجة إلى سدِّ الكثير من ثغرات قانونها الذي أسسته أولاً، ثم تأتي حضارة أخرى فتُلغي كلَّ ذلك القانون، لتأسِّس قانونا آخر!! بعد أنَّ تبين لها عقمه وحيفه وكثرة أخطائه ما أعجز هذا الإنسان؟! لقد جاء رسول الله (ص) بقانونٍ وتشريع تحدَّى به كلَّ البشر، وأفاد بأنَّ هذا القانون الذي جاء به سوف يكون صالحاً إلى آخر الدهر، فاجهدوا أنفسكم، فلن تجدوا أكمل، وأفضل، وأنجع، وأكثر فائدةً، وأكثر صلاحاً، من تشريع رسول الله(ص)، حيث وعد الله وتحدَّى خلقه حينما قال: ﴿اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(10). فما جاء به الرسول (ص) فهو وحده الذي يحيي البشر .. ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(11) فالإيمان الصادق الراسخ بذلك هو معنى اليقين بأحكام الله تعالى.

 

ثالثاً: كيف أكون على يقين بأولياء الله؟

وأما معنى اليقين بأولياء الله، فهو اليقين بأنَّ الله أعلم حيث يجعل رسالته، فهو الذي خلقهم، ويعلم بمخابرهم وملكاتهم ومستوى ما هم عليه من استعدادٍ نفسيٍّ وذهني، فليس للبشر أن يختاروا هذا أو ذلك؛ ليجعله الله رسولا أو يختاروه ليجعله الله دليلاً عليه، وإماماً على خلقه، وهاديا لهم وذلك لقصورهم وامتناع إحاطتهم بمن هو أجدر بهذا المقام من بين عباد الله تعالى، فإذا أذعن الإنسان بهذه الحقيقة فإن نتيجتها هي التسليم لمن اختاره الله عزوجل لهذه المقامات والتسليم بعد ذلك بصوابية ما يصدر عن هؤلاء الذين اختارهم الله لدينه وأنَّ ما يصدر من هذا الإمام، أو من هذا النبي، هو عين الحق والصواب؛ لأنه مُختارٌ ومُنتجبٌ من عند الله، ومُسدَّد من قبل الله -عز اسمه وتقدس-. فلا موضع للتشكيك في صوابية ما يصدر عن النبي والإمام من أوامر وإرشادات لأن ذن ذلك يساوق التشكيك في اختياره الله عزوجل.

 

اختبار اليقين .. حادثة مُعبِّرة

الكثير ممن يرى أنه مؤمن بالله وبرسوله وأهل بيته (ع)، ينتابه الشك عندما تُمحَّص الأمور .. أنقل لكم هذه الرواية: دخل مجموعة من الرجال على الإمام الصادق (ع)، وقالوا له: يا أبا عبد الله، إلى متى نصبر على هذا الظلم والضيم الذي انتابنا؟ ألا تعلنها ثورة على الظالمين، فإنَّ معك آلاف الرجال؟!، قال لأحدهم: قُم، وادخل هذا التنور. قال: يا أبا عبد الله، أدعوك للثورة على الظالمين، فتأمرني بالدخول في هذا التنور لأحترق؟! قال: ادخل، فإنك لن تحترق -مضمون الرواية-، ولن تُصاب بأذى. فأبى أن يدخل -رغم أنَّ الإمام أخبره-؛ وما ذلك إلَّا لأنه لم يكن على يقين بالإمام، فلو كان على يقينٍ لاستجاب إلى أمر الإمام (ع). ولم يمض وقت حتى دخل رجل من عامة الناس وكان مؤمناً تقياً من شيعة أهل بيت محمد (ص) -ودون أن يعلم ما الأمر-، فدخل وسلَّم، فقال له أبو عبد الله: قم يا هذا، وادخل التنور -وهو يستعر ناراً، والجمر يتلظَّى منه فلم يتكأ بل قام ودخل إلى التنور ومكث فيه وقتاً إلى أن أمره الإمام بالخروج منه فخرج ينفض الرماد من عن ثيابه! وهو معافى لم يصبه مكروه.

 

نعم، ضعُف اليقين بأهل البيت (ع)، ولذلك كانت التبعات كثيرة .. لو لم يضعُف يقيننا بأهل البيت، لأكلنا من فوقنا ومن تحت أرجلنا، ولما أصابنا الكثير مما أصابنا. إذن، إذا أردنا أن نكون من أهل اليقين، فلابدَّ وأن يكون إيماننا بأهل البيت (ع) -وبما يأمرون به، وينهون عنه- إيماناً راسخاً.

 

المثل الأعلى لليقين بالله ورسوله

الدرس الأول:

علي ابن أبي طالب (ع)، فارس الإسلام، والرجل الفدائي الأول، هذا الرجل العظيم يُخبره رسول الله (ص)، فيقول له: عزمتُ أن أخرج إلى يثرب، وقريش قد أجمعت على تصفيتي وقتلي، فأريد أن أُموِّه عليهم، فهل تبيتُ على فراشي؟ -اسمعوا سؤال عليٍّ عماذا كان- قال (ع): وإذا بتُّ على فراشك تسلم؟ -لاحظوا، لم يسأل عن سلامة نفسه حين يبيت على فراش النبي (ص) بل سأل عن سلامة نفس النبي (ص) فقال النبي (ص): بلى. فسجد عليٌّ شكراً لله (12). لا وجود للتلكأ أو التردد، ولا مكان للريب في قلب عليّ (ع)، فبات على الفراش، ونام وغطَّ مطمئناً! رجلٌ يشعر بأنَّ صناديد قريش محيطين بالبيت؛ ينتظرون الفرصة ليقتحموا الدار، وسيضربونه ضربة رجلٍ واحد بعشرة سيوف، أو أكثر؛ حتى يختلط دم رسول الله ويضيع بين القبائل .. هذا كان تخطيطهم، وعليٌّ يعلم بكيدهم، ومع ذلك وبكلِّ اطمئنانٍ، وهدوءِ بال، وقرة عين، واستقرارِ قلب، ينام عليٌّ (ع) على الفراش، ويغطي نفسه بالغطاء، ويغطُّ في النوم، وكأن شيئا لن يقع! ولعمري أيُّ شيء يخشى علي؟! يخشى من الموت؟! وهو الذي يقول: "أيُّ يوميَّ من الموت أفرّ؟ يوم لاقُدِّر، أو يوم قُدِّر؟! يوم لا قُدِّر لا أرهبه، ومن المُقدور لا يُنجي الحذر"(13).

 

فقد كان على يقينٍ راسخ.

 

الدرس الثاني:

لاحظوا الفرق بين عليٍّ (ع)، وبين مَن كان مع عليٍّ من أصحاب رسول الله (ص): يوم الأحزاب حينما أخذ رسول الله (ص) ينادى -حتى بُحَّ صوته-: "أيها المسلمون، من يبرُز لهذا العلج الكافر -مضمون الرواية- وأضمن له على الله الجنة؟"(14) وذلك بعد أن اقتحم عمرو بن ود الخندق .. فبادر علي (ع) -وكان من المنتظر أن يُبادر معه آخرون، إلَّا أنه لم يبادر منهم أحد، رغم أن علياً كان من أصغرهم سناً-! وقال (ع): أنا له يا رسول الله -ثلاث مرات-. ثم يبرُز -وبكل اطمئنان- أمام رجل يُعدّ بألف فارس، فحاول عمرو بن ود أن يستثير من نخوته وعروبته، إلا أنَّ علياً ليس في قلبه غير الإسلام، فقال: كنتُ صديقا لأبيك، ولا أحبُّ أن أقتلك يابن أخي، أنت أصغر مني، أنت كذا .. قال له (ع): ولكني أحبُّ أن أقتلك. -أنا أحب أن أقتلك؛ لأنَّ في قتلك رضاً لرسول الله (ص)-، فيصارعه، ويقتله، ويرجع وقد أعزَّ بقتله جيش المسلمين ودبَّ الرعب والخذلان في قلوب جيش الأحزاب.

 

والعجيب أن بعضهم حينما يقفون على مثل هذه المواقف: على مبيته على فراش رسول الله، وعلى موقفه من عمرو بن ود الذي لم يقفه أحد من أصحاب النبي (ص) -رغم الوعد الذي جاء على لسان رسول الله (ص)، وأنه يضمن لمن برز إليه الجنة- عندما يقف هؤلاء أمام هذه المشاهد المشرِقة من تاريخ الإسلام، ماذا يقولون؟ يقولون إنما كان إقدام عليّ، وجرئته؛ لأنه قد دعى له رسول الله، فعرف أنه لن يُقتل، ولذلك أقدم!

 

ألم يكن بالإمكان أن يتقدَّم غيره ويدعو له رسول الله، ؟فلماذا لم يتقدم أحدٌ غير عليّ (ع)؟ ولنفترض أن هذا الكلام صحيح، وأنَّ إقدام علي (ع) كان لثقته بدعاء رسول الله (ص)، فإنَّ هذا يكفي لإثبات أنّ علياً قد بلغ مرتبة عالية في اليقين. أنت يا من تشكِّك في هذه الفضيلة لعليّ (ع)، لو دعا لك الرسول (ص)، ثم قال لك ادخل النار، أوارمِ نفسك من شاهق، أو تقدم لمبارزة بطل، -ورسول الله (ص) قد دعا لك من قبل- فهل سترمي نفسك في النار الملتهبة، أوبين فكَّي الموت؟ أنت لن تُقدم؛ لأنك أصلا لا تثق بدعاء الرسول (ص). يكفي علياًّ منقبةً أن يكون قد وثق بدعاء الرسول، وتيقَّن أن دعاء الرسول مصادفٌ للواقع حتماً وأنَّه سوف يُستجاب له .. يكفي هذا منقبة لعليٍّ.

 

الدرس الثالث:

علي (ع) كان يقول: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددتُ يقينا"(15)، وقد أثبت بمواقفه صدق هذه الدعوى، فعندما ضُرب على رأسه في محراب العبادة قال: "فُزت"، كان متأكداً ولم يكن يشك لذلك أقسم أنه قد فاز، فقال (ع): "فزتُ وربِّ الكعبة"(16). وفي المقابل، عندما يحتضر غيره يقول: ليتني كنتُ كبشا! انظروا الفرق! عليٌّ حينما كان يحتضر يقول: فزتُ وربِّ الكعبة. وأما غيره فيقول حين احتضاره: ليتني كنت كبشا؛ يطعمني الملاك، حتى إذا ما سمنت ذبحوني في يوم عيدهم. يتمنَّى لو كان كبشاً.

 

وآخر يقول: ليتني كنتُ بعرة في إست شاة. هذا قد استحى أن يقول ياليتني كنت تراباً، فاختار ما هو أسوء من ذلك! الكافر يقول: يا ليتني كنت ترابا. ولكن هذا يتمنى لو كان بعرةً في إست شاة، متدلية! ليته كان بعرة في است شاة متدلية؛ لأنه غير واثقٍ بمآل حاله بعد الموت، فهو لذلك يتمنى لو كان بعرةً تدوسها الأقدام وينتهي أمره.. وذلك تمنى أن يكون شاة، فيذبح وينتهي أمره.. ولكنه لم يكن كبشاً، ولم يكن الآخر بعرة، وقد فعل وقام وقعد، لذلك لم يكن على يقينٍ بالخلاص يوم يُلاقي ربَّه. يتذكر قول فاطمة: "فدونكها، مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك"، "فنعم فالحكم الله"، "والخصيم محمد، والموعد القيامة، وعندئذ يخسر المبطلون".

 

وأما علي (ع) فيقول: فزتُ وربِّ الكعبة. بأيِّ شيء فاز علي؟ هل فاز بالدنيا؟! أيُّ دنياً كانت لعلي؟! لك الله يا عليّ، فبعد الجهاد الطويل، وبعد العناء المرير، وبعد أن كابد وجاهد، وأعان وبذل .. تنكَّر له الكثير من أبناء هذه الأمة وتظافروا على إقصائه ومنابذته والحيلولة بينه وبين حقه الذي جعله الله تعالى له إلا أنه لم يكن يعبأ بتنكُّرهم فلم تكن الدنيا محطُّ نظره ولا هي مبلغ رغبته وإلا لكان من أخسر الناس فهو حين جأر بفوزه وأقسم على ذلك بربِّ الكعبة قصد فوزه برضوان الله وبقعدِ الصدقِ عند يوم يقوم الناس لرب العالمين.

 

نستكمل الحديث في وقت لا حق.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الصحيفة السجادية الكاملة -الإمام زين العابدين (ع)- ص 99.

2- عيون الحكم والمواعظ: 486، ميزان الحكمة ج4/3713.

3- ميزان الحكمة ج4/3714.

4- النص: عن أبي عبد الله (ع) قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الابصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان. الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 98.

5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 40 ص 153.

6- بحار الأنوار ج75/186.

7- سورة الأنفال / 24.

8- سورة الواقعة /63-64.

9- سورة الواقعة / 71-72.

10- سورة الأنفال / 24.

11- سورة المائدة / 45.

12- الدر النظيم لابن حاتم العاملي: 115، الأمالي للشيخ الطوسي: 465.

13- النص:

من أي يومى من الموت أفر ** أيوم لم يقدر أم يوم قدر

فيوم لا يقدر لا أرهبه ** ويوم قد قدر لا يغنى الحذر

شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج 5 ص 132.

14- النص: قال النبي (ص) ثلاث مرات: "أيكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنة "؟ وفي كل مرة كان يقوم علي عليه السلام، والقوم ناكسوا رؤسهم، فاستدناه وعممه بيده، فلما برز قال (ص): "برز الايمان كله إلى الشرك كله". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 20 ص 215.

15- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج 1 ص 317.

16- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 41 ص 2.