قطع الرأس الشريف (الظروف والدوافع)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد (ص)، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

الحديث حول قطع رأس الحسين الشهيد (ع)، والأبرار من أهل بيته وأصحابه. وقبل الخوض في الحديث حول ما هي الدوافع التي نشأ عنها هذا الفعل الشنيع وغير المسبوق، لابدَّ من بيان مقدَّمتين:

 

المقدمة الأولى: قطع الرؤوس يُعدّ من المُثلة، وهي حرام:

لا إشكال ولا ريب في حرمة قطع رأس القتيل أو الميت؛ وذلك لأنه من المُثلة، وقد أجمع المسلمون -قاطبة- على أنَّ المُثلة بالقتيل أو بالميت من كبائر الذنوب ومن المحرمات، بل إنَّ الحرمة لا تختصّ بما لو كان القتيل مسلماً، وبما إذا كان الميت مسلماً، بل إنَّ الحرمة ثابتة حتى لو كان القتيل، أو الميت كافراً(1). وقد ثبت عن الرسول الكريم (ص) -من طرقنا بأسنادٍ معتبرة، ومن طرق العامة -أنَّه كان إذا بعث سريَّةً من سراياه، دعا أميرها وأجلسه إلى جانبه وأوصاه بوصايا، ثم قال له: "اغزُ بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدُروا ولا تغلوا ولا تُمثِّلوا ولا تقتلوا وليداً"(2). والروايات بهذا المعنى متعاضدة، ومتكاثرة. وكذلك ثبت عن علي (ع) أنه كان يُشدِّد على أُمراء الحرب، ويؤكِّد عليهم بأن لا يُجهزوا على جريح، ولا يُمثِّلوا به، ولا يقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأةً(3).

 

إذا،ً فالحكم بحرمة التمثيل بالميت -حتى وإن كان كافراً- محرمٌ دون ريب.

 

علي الأكبر (ع) لم يحتزّ رأس أحدٍ:

ولذلك أيها الأخوة الأعزاء: نفينا صِحَّة ما يتناقله بعض الخُطباء، من أنَّ عليَّاً الأكبر (ع) -الفقيه، العالم، صاحب النبل والشهامة- نفينا ما يتناقلونه من أن عليَّاً الأكبر لما قتل بكر بن غانم، نزل إليه واحتزَّ رأسه، وحمله على رمح، وجاء به إلى الحسين (ع)، أو حمله في يده -على اختلاف كلمات الخطباء-، وهو يقول:

 

صيد الملوك أرانب وثعالب ** وإذا برزتُ فصيدي الأبطال

 

هذا الخبر مكذوب دون ريب، فقد بحثنا عنه في مظانِّه حتى أعيانا البحث، فلم نجد لهذا الخبر عيناً ولا أثراً، لا في كتب المؤرخين من الفريقين، ولا في المَقَاتل، ولا في كتب الأخبار، ولم نسمعه إلَّا من الخطباء، أو من الكراريس التي تكتبها النساء وبعض القصَّاصين، فهذا الخبر منفيٌ قطعاً. ونحن لا ننفي الشعر الذي قرأناه، وإنما ننفي الخبر، وقد تحدَّثنا عن ذلك، وكتبنا حوله فيما سبق.

 

أمير المؤمنين (ع) لم يحتزَّ رأس أحدٍ:

وقد أورد علينا بعض الأخوة إشكالاً وهو: أنه إذا كان هذا الخبر غير صحيح، فما تقولون فيما نُقل في كتب التأريخ، من أنَّ عليَّ بن أبي طالب (ع) -وهو الرجل المعصوم- حينما قتل عمرو بن عبد ود في معركة الخندق (غزوة الأحزاب)، نزل إليه، وجلس عليه، واحتز رأسه، ثم حمل رأسه إلى رسول الله (ص) وهو متهلِّل الوجه، أليس هذا الخبر مذكوراً في كتب التأريخ؟

 

قلنا: إنَّ هذا الخبر وإن كان قد ذُكر في بعض المصادر، ولكنَّه خبرٌ غير نقيّ السند، بل هو شديد الضعف، ولم يرد من طرقنا ولم ينقل في طرق العامة إلا عن الحسن البصري(4) وهو غير معتمدٍ عندنا، نعم ذكره بعض مؤرخينا على أنه خبر مذكور، لكنَّه ضعيف السند، ونقطع بوضعه، وبكذبه، وبعدم وقوع مضمونه؛ وذلك لمعرفتنا أولاً: بنُبل علي بن أبي طالب، وترفُّعه، حتى ذكر أكثر المؤرخين من الفريقين: أنَّ علي بن أبي طالب لما أن قتل عمر بن عبد ود، رجع إلى رسول الله (ص) وهو متهلل الوجه، فاستقبله عمر بن الخطاب فقال له: يا علي -بعد أن هنأه- قال له يا علي: هلَّا سلبتَ ابنَ عبد ود درعه، فإنه ليس في العرب خيراً منها؟ قال: استحييتُ أن أكشف عورة ابن عمي(5). فعلي لم يسلب عمرو بن ود، رغم أنَّ هذ العمل كان مألوفاً -سلب القتيل درعه وسلاحه كان مألوفاً-، إلَّا أن علي بن أبي طالب كان يترفَّع حتى عن سلب الدرع.

 

إن الشهامة والشجاعة لا تعني أن ينزل الإنسان بعد أن يقتل قتيله فيحتزَّ رأسه، هذا عمل مشين يُعبِّر عن دنائةٍ في الطبع، وخسَّةٍ في السجية والخصال، وأهل البيت (ع) أرفع من هذا العمل.

 

وقد شدَّد عليُّ بن أبي طالب على أمراء الحرب أيام صفين، وأيام الجمل، وأيام النهروان، وأيام المعارك التي تحصل في أطراف البلاد الإسلامية، شدَّد على أنَّه لا يحقُّ لأحد أن يُجهز على جريح، ولا أن يُمثِّل بقتيل.

 

أهل البيت (ع) أرفع من أن يُقطِّعوا الرؤوس:

هذا ما ثبت عن أهل البيت (ع)، فلا يسعنا إلا أن نحكم بأنَّ هذا الخبر -وإن ذكرته بعض الكتب التأريخيه- مكذوبٌ على عليّ (ع)، ومكذوب على رسول الله (ص)، وهو يُمثِّل إساءةً لعليّ وإلى الرسول (ص). والخطباء -بعضهم- وبدافع الحب يتوهَّم أنَّ تلك منقبة وهي ليست كذلك. هذه هي المقدمة الأولى.

 

أذكركم أيها الأخوة إنَّ آخر وصايا الإمام علي بن أبي طالب هو النهي عن المُثلة، فبعد مجموعة من الوصايا التي أوصى بها علي بن أبي طالب، قال لأبي محمد الحسن المجتبى (ع): يا بني، إذا أنا مِتُّ من هذه الضربة فأنتم أولياء الدم، وإن لم أمت فأنا أولى، أعفو أو أقتص، وإذا عزمتم على القصاص فلا تُمثِّلوا بالرَّجل؛ فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إيَّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور. فلا ألفينكم يا أبناء أبي طالب تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين)(6). هذه هي وصيَّة علي بن أبي طالب وهذه هي سجايا أهل البيت (ع) التي تُنبيء عن سمو نفوسهم ورفعة شيمهم.

 

المقدمة الثانية: قطع الرؤوس ظاهرة دخيلة على التأريخ الإسلامي:

ظاهرة قطع الرؤوس لم تكن مألوفة، بل لم تقع في صدر الإسلام رغم الحروب الكثيرة التي خاضها الرسول الكريم (ص) مع المشركين، ومع اليهود، إلَّا أنَّه لم يُؤثر في كتب التأريخ أنَّ رسول الله، أو أحداً من أمراء الحروب، قد أقدم على قطع رأس أحدٍ من القتلى. نعم، قد يطير رأس مقاتلٍ نتيجة ضربه على العاتق، هذا يحصل. أمَّا أن يُجهَز على جريح، ثم يُقطَع رأسه، فهذا لم يحصل.

 

وكانت وصايا الرسول تؤكد على أن لايهدموا دارا،ً ولا يهدموا قناة ماء، ولا يرموا السُّم في بئر، وأن لا يُخرِّبوا زرعاً، ولا يقلعوا نخلاً ولا شجرا،ً ولا يروِّعوا امراةً، ولا يقتلوا شيخاً فانياً، ولا وليداً(7).

 

وقد أُثِر أنَّ بلالاً مؤذن الرسول (ص) لما أن سُبي بعض نساء اليهود في بعض الحروب، أخذ النساء فمرَّ بهنَّ على قتلاهنَّ، فبلغ ذلك رسول الله فغضب على بلال غضباً شديداً، لأنه روَّع نساءاً فمرَّ بهنَّ على قتلاهُنَّ(8).

 

هذه كانت سيرة الرسول (ص)، ثم جاء الخلفاء من بعده فلم يُؤثر عنهم أنهم قبِلُوا بأن يُقطع رأس قتيل في حرب.

 

أوَّل حادثة لقطع الرؤوس:

نعم، وقعت حادثه في أيام الخليفه أبي بكر وأحدثت ضجيجاً على نطاق واسع في الحاضرة الإسلامية، فقد بعث أبو بكر خالد بن الوليد لمواجهة من يُعبَّر عنهم بالمرتدين -بعضهم كانوا مرتدين حقاً، وبعضهم لم يثبت أنهم مرتدون-، ومن ضمن من ذهب إليهم خالد بن الوليد قبيلة مالك بن نويرة -مالك بن نويرة قد ثبت عند جميع المسلمين من الفريقين أنه لم يرتدّ، وإنَّما تمنَّع من دفع الزكاة إلى أبي بكر لأنه فوجئ بأن يكون الخليفه أبو بكر، فتريَّث-، فذهب إليه خالد بن الوليد مع مجموعة من المسلمين، وفيهم أبو قتادة الأنصاري، وفيهم عبدالله بن عمر، فقالوا: إننا مسلمون، فعلام تقاتلونا؟ فأعطاهم الأمان، ثم غدر فأوثقهم، فأراد أن يقتلهم مع زعيمهم مالك بن نويرة، فقال: كيف تقتلون مسلمين؟! قال له: أنتم مرتدُّون. فشهد أبو قتادة الأنصاري أنهم لم يرتدُّوا، وإنهم صلُّوا معهم، وإنهم على الإسلام. إلَّا أنَّ مالك بن نويرة كانت له زوجة صبيحة الوجه، قال لخالد: إنما قتلتني هذه (ليلى)، قال: بل قتلك الله؛ لإنك ارتددت عن الإسلام. قال له: أنا مسلم، أشهد الشهادتين، وها أنا أرددها. لم ينفع ذلك، فقتلهم صبراً، وضرب أعناقهم، ثم أخذ رؤوسهم وجعلها أثافي للقدور (للطبخ) -القدور تحتاج إلى أن توضع أحجاراً تحتها حتى تُشعل النار، تحتها وهذه تسمى أثافي-، وضع خالد رؤوس مَن قتلهم -وفيهم مالك بن نويرة كما أفاد الطبري في تاريخه(9) وغيره- تحت القدور! فغضب أبو قتادة وانسحب من الجيش وذهب إلى أبي بكر وأخبره بالخبر، فلم يعتن كثيراً بالموضوع، فذهب إلى عمر، فأبدى غضباً شديداً وذهب إلى أبي بكر وقال له: إنَّ خالد بن الوليد قتل مسلماً، ومثَّل به، ونزى على زوجته، فحقُّه الرَّجم والقصاص. قال: تأوَّل فأخطأ، وما كنت لأشيم سيفاً سلَّه الله(10).

 

هذه القضية أحدثت سخطاً شديداً في أوساط المسلمين، حتى أن عمر بن الخطاب وبمجرَّد أن تولى الخلافة عزل خالد بن الوليد من إمارة الجيش. هذه قضية، وهي غريبة على الحالة الإسلامية، لذلك أحدثت صخباً في الوسط الإسلامي.

 

الحالة الثانية: أوَّل رأس حُمِل في الإسلام:

وقعت في أيام معاوية لعمرو بن الحمق الخزاعي -هذا الرجل كان صحابياً، وكان من خواصّ علي بن أبي طالب، وشارك في صفين، والجمل، والنهروان-، فلما أن قُتل عليّ، طارده معاوية فهرب إلى الموصل، وهناك في الموصل أدركوه وهو في غارٍ قد لسعته حيَّة، وكان دنفاً (مريضاً)، فقتلوه، وقطعوا رأسه، وحُمِل رأسه إلى الشام وقيل كان ميتاً إلا أنهم رغم ذلك قطعوا رأسه وحملوه إلى الشام(11)، هذه الحادثة الوحيدة التي حُمِل فيها الرأس. فمالك بن نويرة قد قُطِع رأسه، ووضع أثافي تحت القدور، ولكنه لم يُحمل، لذلك قال المؤرخون: أوَّل رأسٍ حُمِل، هو رأس عمرو بن الحمق الخزاعي (رحمه الله)، هذا الصحابيّ الجليل -عمرو بن الحمق الخزاعي- لما أن كان مطارداً، وأرادوا أن يضغطوا عليه، فاعتقلوا زوجته وكانت في الشام مسجونه، ولما جيئ برأس هذا الرجل -الذي كان معروفاً بكثرة العبادة(12)، وكان شيخاً كبيراً- إلى معاوية، قال معاوية: إذهبوا به فارموه في حجر زوجته(13)! هكذا فعلوا! فوقعت أمورٌ لا مجال لعرضها.

 

هذا هو الرأس الأوَّل الذي حُمِل في الإسلام، ولكنه لم يُعرض على رمح، وإنَّما حُمِل ولم يُعرَض على رمح.

 

أوَّل رأسٍ حُمِل على خشبة:

أوَّل رأس -كما يقول المؤرخون- رُفع على خشبة هو رأس الحسين بن علي(14)! هذه الظاهره لم تكن مألوفة عند المسلمين قاطبة، فرغم كثرة الحروب التي خاضوها مع الفرس، ومع الروم، ومع المشركين، ومع اليهود، ومع الأعراب، لم تحصل هذه الحادثة، فهي حادثة فريدة من نوعها، وغير مسبوقة: أن تُقطع رؤوس القتلى، وتُحمل، ويُطاف بها الحواضر الإسلامية -كل الحواضر تقريباً، أو أكثر الحواضر الإسلامية قد طيف فيها برأس الحسين، والأبرار من عترته، وأصحابه!-.

 

ما جرى على الرأس الشريف ليس له نظير!

وهكذا حُمِل رأس الحسين (ع) على رأس رمح، وحُمِلت رؤوس أصحاب الحسين على رؤوس الرماح، ولم تُحمَل في طومار أو في خزانة كما فُعل بعمرو بن الحمق الخزاعي، وإنما حُمِلت على رماحٍ طِوال، يُطاف بها، ويُدار بها في الأسواق، وعند العشائر، وفي كلِّ مكان، ويُصلب في المحلِّ الذي تتكاثر فيه الناس، كسوق الكوفة، وكالمسجد (مسجد الكوفة)!!

 

أولاً: بعث به إلى الكوفة، وصُلِب ثلاثة أيام، ثم طيف به في عشائر الكوفة، وفي الأرباع، وفي الأسواق، ثم حُمِل إلى يزيد، وأمروا بأن يسلكوا الطريق الأبعد إلى دمشق! لذلك حُمِل الرأس الشريف، والسبايا على أبعد طريق، فطيف بهم -بالسبايا، وبرؤوس الشهداء- في كثير من المدن الإسلامية، مثل: جُهينة، وتلعفر، وسنجار، ونصيبين، ورأس العين، وحلب، وقلنسرين، وحماة، وحمص، حتى بلغوا بعلبك، وصومعة الرَّاهب، إلى أن بلغوا بهم إلى دمشق، وبقي هناك فصُلِب عند القصر، وطيف به في دمشق(15)!!

 

هذه حالة غير مسبوقة، وعلى بعض الروايات -كما أفاد البلاذري في أنساب الأشراف، والذهبي، وكلاهما من كبار مؤرِّخي، وعلماء الرجال، والتأريخ، والفقه، عند السنة- يقول البلاذري، وكذلك الذهبي في تاريخ الإسلام أنه: بعد أن حُمِل الرأس إلى دمشق، وبقي في دمشق طويلاً، حُمِل ثانيةً إلى المدينة المنورة، إلى عمرو بن سعيد الأشدق -وكان والياً حينذاك على المدينة-، فرُفع الرأس الشريف قريباً من مسجد الرسول (ص)، قريباً من قبر الرسول، رفع رأس الحسين هناك! فتصارخت الطالبيات، وذكر بعض المؤرخين أن مروان حمل الرأس الشريف في يده وأخذ: يعبث بثنايا أبي عبد الله الحسين (ع)، ويقول:

 

يا حبـذا بُـردك بـاليـديــن ولــونــك الأحــمــر فــي الـخـديـن

كـأنـه بــات بـعـسجــديــن شفيتُ صدري من دمِ الحسيـن(16)

 

فإذاً، لو ثبت أنَّ رأس الحسين حمل إلى المدينة وحُمِل بعد ذلك إلى مصر، لكان رأس الحسين (ع) قد حُمِل إلى أكثر الحواضر الإسلامية، فمن العراق بمدن العراق، إلى الشام مروراً بمدن الشام -وهي تشمل فلسطين، وكذلك لبنان الآن، إلى دمشق-، وبعد ذلك عادوا به إلى الحجاز، إلى المدينة، ثم إلى مصر -على رواية-، فأكثر الحواضر الإسلامية قد طيف فيها برأس الحسين. والعجيب أنَّ مروان يقول:

 

يا حبـذا بُـردك باليديــن ولونـك الأحمــر في الخدين

 

لم تتغيَّر سيماء وجه أبي عبد الله الحسين (ع)، رغم هذا الشوط الطويل من الزمن، فقد كان رأسه الشريف مرفوعاً على رأس رمحٍ في الشمس، وفي اللَّهب، وفي الهواء، ثم لم يتغيَّر وجه أبي عبد الله (ع)! ويشهد هذا الرجل الخبيث فيقول:

 

ولونـك الأحمــر في الخدين كأنــه بـات بعسجـديـن

 

أي: لون الذهب الأحمر.

 

الدوافع وراء قطع الرأس الشريف:

أولاً: الدوافع النفسية:

طبعاً هناك دوافع نفسية بعثت يزيد إلى أن يفعل ذلك -وكذا عبيد الله بن زياد-، وهي الشعور بالصَّغار، وبالحقار أمام هذا الطود المهيب، وهذه القداسة، وهذه الهالة العظيمة التي يحظى بها الحسين (ع) في نفوس المسلمين، في حين أنهم محتقرون، فيشعرون بالصغار -حالة من العقد النفسانية-. فعُبيد الله بن زياد، الرجل الحقير، الذي لا شرف له في النَّسب، ولا شجاعة، ولا شهامة، ولا تأريخ، أبوه زياد كان دعيَّاً لبني أمية ألحقه معاوية بأبي سفيان لأنَّه تخلَّق من مائه فجوراً حيث كان قد نزى على أمةٍ تدعى سميَّة في الطائف فكان يدعى بزياد بن أبيه إلى أن ألحقه معاوية ببني أمية تجاوزاً لقول رسول الله (ص): "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(17) .. فعبيد الله بن زياد حين يواجه الحسين بن رسول الله، ابن فاطمة، ابن علي، سليل الطالبيين، والهاشميين، رجلٌ معروفٌ بكلِّ سجايا الخير والصلاح، محبوبٌ، مُقدَّسٌ .. فحتماً ستتحرّك العقد النفسانية، والشعور بالصغار، لذلك أرادوا أن يُنفسِّوا عن تلك العُقد بمثل هذه الأفعال الشنيعة.

 

ثانياً: الدوافع السياسية:

كما أنَّ هناك دوافع سياسية بعثت الأمويين إلى أن يفعلوا ذلك بسيد الشهداء (عليه أفضل الصلاة والسلام)، فالإمام الحسين كان له مركز إلهي، موقع ديني كبير وتقدير وتقديس في نفوس الكثير من المسلمين، فأراد النظام الأموي أن يبدِّد كلَّ ذلك، وأن يقول: إنَّ هذا الذي يملك هذا الرصيد الإجتماعي، وهذا الرصيد الديني الكبير، قد تمكنَّا منه، وقد قتلناه، فحينئذ لن نراعي أحداً. إذا كان الحسين وموقعه الدينيّ، وموقعه الإجتماعي، وتأريخه، ونسبته إلى الرسول، لم نراعه فلن نراعي غيره. هذا الإيحاء يُحدث نوعاً من الإرهاب في نفوس المسلمين.

 

أرادوا أيضاً أن يعلنوا بأنَّ ثورة الحسين (ع) قد انتهت، وأنَّ الذين أرادوا أن يقوِّضوا النظام الأمويّ قد تم القضاء عليهم فلا تسوِّل لأحدٍ نفسه بعد ذلك فيحرِّك ساكناً في مواجهة هذا النظام، فإن هذا النظام عصيٌّ، وغير قابل للتقويض، وغير قابل لأن يُزعزع، وأنه ثابتٌ متُجذِّر. أرادوا أن يرسلوا هذه الرسالة للمسلمين. وأرادوا أيضاً أن يُحطِّموا ما بقي من روح معنوية في النفوس، وأرادوا أن يقولوا لكل المسلمين بأنَّ من أراد أن يتحرَّك فإنَّ هذا هو مصيره، فلن نراعي فيه إلاًّ ولا ذمَّة.

 

وللأسف الشديد لا وقت للحديث عن تفاصيل الدوافع التي دفعت بالنظام الأموي لأن يفعل بسيد الشهداء (ع) هذا الفعل، هذا الفعل الذي ضجَّت له ملائكة السماء وضجَّ له الأنبياء، وتحدَّث عنه الأنبياء منذ تأريخ الرسالات إلى يومنا هذا، وسيظل هذا الفعل الشنيع وصمة عارٍ في جبين النظام الأمويّ، وفي جبين كلِّ مَن رضي بفعل يزيد.

 

وأيَّ رأسٍ قطعوا؟!

ولأنَّ الحسين كان هبة السماء لأهل الأرض، ولأن الحسين كان سفير الله في عباده، ولأنَّ الحسين ليس على وجه الأرض له من مثيل، لذلك كان قتله، والتمثيلُ به، ورضُّ جسده، وتكسيرُ أضلاعه، لا يعدل غيره. يمكن أن يكون قد فُعِل بغيره شيئاً من مثل ما فُعِل بسيِّد الشهداء، ولكن المائز أنَّ القتيل هنا هو الحسين (ع).

 

أتدرون ما معنى الحسين؟

الحسين الذي هو معروفٌ في السَّماء، أكثر منه معروفاً في الأرض وهو أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء(18)، وهو مصباح الهدى وسفينة النجاة، الحسين الذي كان نوراً مُعلَّقاً في العرش، كما ورد كلُّ ذلك في طرق العامة: و"إنَّ الحسن والحسين شنفا العرش، أي أنَّهما للعرش بمنزلة القرطين من الوجه"(19).

 

هذا هو الحسين، لذلك كان قتله ليس كقتل سائر الناس، فضلاً عن التمثيل به، وفضلاً عمَّا فُعِل بجسده الطاهر المُقدَّس.

ينتقم الله من الظالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون، والعاقبة للمتقين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

 

الشيخ محمد صنقور


1- المبسوط ج2 / ص19، النهاية ص298، السرائر ج2 / ص21، الجامع للشرايع ص237، تحرير الأحكام ج2 / ص144، وتذكرة الفقهاء ج9 / ص79، ومنتهى المطلب ج2 / ص912، المسالك ج3 / ص27، جواهر الكلام ج21 / ص77.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج15 / ص59.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج5 / ص30 / ح9.

4- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص104، تفسير مجمع البيان ج8 / ص133.

5- النص: ولما أردى (عليه السلام) عمروا قال عمرو: يا ابن عم إن لي إليك حاجة: لا تكشف سوأة ابن عمك ولا تسلبه سلبه، فقال (عليه السلام): ذاك أهون علي، وفيه يقول (عليه السلام): وعففت عن أثوابه لو أنني ** كنت المقطر بزني أثوابي محمد بن إسحاق: قال له عمر: هلا سلبت درعه فإنها تساوي ثلاثة آلاف وليس للعرب مثلها؟ قال: إني استحييت أن أكشف ابن عمي. مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج1 / ص384، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج1 / ص104، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص33، البداية والنهاية -ابن كثير- ج4 / ص122، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج42 / ص80 وغيرهم.

6- نهج البلاغة ج3 / ص77، وسائل الشيعة ج29 / ص128.

7- مسند الشاميين ج4 / ص336، تهذيب الأحكام ج6 / ص143، وسائل الشيعة ج15 / ص59.

8- أسد الغابة -ابن الأثير- ج5 / ص490، أعلام الورى -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص209.

9- راجع وفيات الأعيان -ابن خلكان- ج6 / ص14، تاريخ الطبري ج2 / ص503، شرح النهج -ابن أبي الحديد- ج17 / ص206، الإصابة -ابن حجر- ج5 / ص561، تاريخ البعقوبي ج2 / ص131.

10- النص: عن ابن أبي عون وغيره إن خالد بن الوليد ادعى إن مالك بن نويرة ارتد بكلام بلغه عنه، فأنكر مالك ذلك، وقال: أنا على الإسلام ما غيرت ولا بدلت، وشهد له بذلك أبو قتادة، و عبد الله بن عمر، فقدمه خالد وأمر ضرار بن الأزور الأسدي فضرب عنقه، وقبض خالد امرأته؟ فقال (1) لأبي بكر: إنه قد زنى فأرجمه، فقال أبو بكر: ما كنت لأرجمه تأول فأخطأ، قال: فإنه قد قتل مسلما فأقتله: قال: ما كنت أقتله تأول فأخطأ، قال: فأعزله، قال: ما كنت لاشيم سيفا سله الله عليهم ابدا. راجع وفيات الأعيان -ابن خلكان- ج6 / ص14، تاريخ الطبري ج2 / ص503، شرح النهج لابن أبي الحديد ج17 / ص206، الإصابة لابن حجر ج5/ 561، تاريخ البعقوبي ج2 / ص131.

11- راجع الإستيعاب لابن عبد البر- ج3 / ص1173، الطبقات الكبرى ج6 / ص25، التاريخ الصغير -البخاري- ج1 / ص131، الثقات -ابن حبان- ج3 / ص275، أسد الغابة ج4 / ص100.

12- الأخبار الطوال -الدنيوري- ص150.

13- أسد الغابة -ابن الأثير- ج4/ 101، البداية والنهاية ج8 / ص52، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج69 / ص40.

14- تاريخ الطبري ج4 / ص297، المنتخب من ذيل المذيب للطبري ص25، طبقات ابن سعد ترجمة الإمام الحسين ص80.

15- ينابيع المودة -القندوزي- ج3 / ص89، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج69 / ص160، كتاب الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص126، تاريخ الطبري ج4 / ص352، الثقاة لابن حبان ج2 / ص313، تاريخ اليعقوبي ج2 / ص245، البداية والنهاية ج2 / ص260، ج8 / ص208.

16- انساب الأشراف -البلاذري- ص217، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج2 / ص351، شرح النهج -ابن أبي الحديد- ج4 / ص71، طبقات ابن سعد ترجمة الإمام الحسين ص84.

17- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج21 / ص169.

18- شرح إحقاق الحق ج13 / ص62، مجمع الزوائد ج9 / ص186، المعجم الأوسط -الطبراني- ج4 / ص181، الأصابة -ابن حجر- ج2 / ص69، أسد الغابة -ابن الأثير- ج3 / ص235.

19- فيض القدير شرح الجامع الصغير -المناوي- ج3 / ص551، الجامع الصغير -جلال الدين السيوطي- ج1 / ص590، شرح احقاق الحق ج4 / ص106.