دليل شرط الأعلميَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هي الأدلة النقليَّة والعقلية على شرط الأعلميَّة في التقليد؟ ولماذا لا يرى الشيخ محمد أمين زين الدين هذه الشرط في التقليد؟

الجواب:

عمدةُ ما استند إليه العلماء في لزوم تقليد الأعلم هو السيرة العقلائية القاضية بتعيُّن الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالاختلاف بين الأعلم وغيره، ففي كل مورد يقع فيه الخلاف بين علماء فنٍ من الفنون أو حرفةٍ من الحِرف فإنَّ العقلاء يحكمون بلزوم الأخذ بقول الأعلم دون غيره، ولذلك تجدهم يلومون من يعتمد قول غير الأعلم حينما يكون للأعلم قول مخالف لما تبنّاه غير الأعلم.

فلو اختلف طبيبان في تشخيص مرض أو اختلفا في توصيف علاج وكان أحدهما أعلم من الآخر بمراتب فإنَّ العقلاء يعتمدون قول الأعلم منهما ويُسفِّهون مَن يأخذ بقول غير الأعلم منهما ويلومونه ويعتبرون فعله منافياً لمقتضى التعقُّل.

وهذه السيرة لم يردع عنها الشارع رغم أنَّ انسحابها إلى الشئون الشرعية محتمل جداً مما يستوجب على الشارع الردع عنها لو كان مقتضاها منافياً لمتبنياته وأغراضه حماية لأغراضه، فعدم الردع يُعبِّر عن القبول بمؤدَّى السيرة، وهذا هو معنى الإمضاء للسيرة القاضي بحجيتها.

ويمكن أنْ يُصاغ الدليل ببيان آخر وهو أنَّه لم تثبت سيرة عقلائية على اعتماد قول غير الأعلم، وحينئذ يقع الشك في حجية قول غير الأعلم بعد افتراض عدم وجود دليل آخر على مشروعيته والشك في الحجية يُساوق القطع بعدم الحجية.

ولمزيد من التوضيح نقول: إنَّه لا إشكال في أنَّ الشريعة وضعت للعامي طريقاً للوصول إلى الحكم الشرعي، ومن المحرَز أنَّ الاحتياط ليس هو الطريق لذلك، لعدم كونه ميسوراً، ولا هو الظن لأنَّه لا ظنَّ للعامي بالحكم الشرعي، ولو كان له ظنٌّ فإنَّه لا حجية له قطعاً فيتعَّين كون الطريق هو الرجوع إلى العالم، والقدر المتيقن ممَّن يجوز الرجوع إليه من العلماء هو الأعلم، وغير الأعلم لا دليل على حجية قوله، وكون الطريق المتعين للوصول إلى الحكم الشرعي هو الرجوع إلى العالم لا يُساوق تصحيح الرجوع لمطلق العالم بعد أن كان هذا الدليل لبيَّاً وبعد أنْ كان له قدر متيقن فيكون ذلك معناه الشك في طريقية قول غير الأعلم، وذلك هو معنى الشك في حجية قول غير الأعلم.

وبذلك يتنقح موضوع القاعدة وهي أنَّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدم الحجية.

هذا بالإضافة إلى الروايات التي تصلح للتأييد دون الاستدلال نظراً لضعفها سنداً مثل ما روي عن الإمام الجواد (ع) أنَّه قال مخاطباً عمه: "ياعم إنَّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لم تفتِ عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك"(1).

وأما لماذا لم يُفتِ الشيخ زين الدين رحمه الله بلزوم الرجوع إلى الأعلم فالظاهر أنَّ منشأ ذلك هو تمسكه باطلاقات الأدلة المقتضية لحجية فتوى الفقيه وجواز رجوع العامي إليه حيث لم يرد ما يقتضي تقييدها بالأعلم.

مثل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2).

فإنَّ هذه الآية من أدلة الحجية لقول الفقيه ومفادها هو حجية فتوى مطلق الفقيه حيث لم تشتمل على ما يقتضي تقييد حجية فتوى الفقيه بالأعلم.

وكذلك مثل قوله (ع): "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فإلى العوام أن يقلدوه"(3).

فإنَّ الظاهر من الرواية هو أنَّ مجرد الاِتصاف بملكة الفقاهة كافٍ في حجية فتوى الواجد لها، فلم تشتمل على يقتضي التقييد بالأعلمية.

إلا أنَّ الجواب عن هذا الاستدلال هو أنَّ الإطلاقات ليست تامة من جهة فرضية الاختلاف بين الفقهاء في الفتوى وانَّ أقصى ما يقتضيه مثل هذه الرواية وكذلك الآية المباركة هو حجية فتوى مطلق الفقيه في فرض عدم الاختلاف، وهذا المقدار لا إشكال فيه حتى بنظر من يشترط الأعلمية في مرجع التقليد.

فالبحث إنما هو في فرض الاختلاف بين الفقهاء في الفتوى، فلو كانت الاطلاقات دالة على حجية فتوى مطلق الفقهاء في ظرف الاختلاف لكان معنى ذلك هو القول بحجية الفتاوى المتعارضة، فهنا احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول: هو منجزية جميع الفتاوى المتعارضة وهو غير ممكن، إذ لو كان الفقيه الأول يفتي بالحرمة والآخر يفتي بالوجوب وقلنا بمنجزية كلا الفتويين لكان معنى ذلك الجمع بين الضدين كما أنَّه لا يمكن امتثالهما معاً.

الاحتمال الثاني: هو حجية إحدى الفتويين أو الفتاوى بعينها دون غيرها وذلك من الترجيح بلا مرجح.

الاحتمال الثالث: الحجية بنحو التخيير، وذلك وإن كان ممكناً إلا أنَّه فاقد للدليل إذ أن مفاد الاطلاقات هو الحجية التعيينيَّة لاحجية هذه الفتوى أو تلك بمعنى أن الاطلاقات مفادها انحلال الحجية إلى حجيات متعددة بعدد الفقهاء.

وبذلك يتعين مفاد الإطلاقات وهو حجية قول مطلق الفقهاء عند افتراض عدم الاختلاف وذلك خارج عن محل النزاع، إذ أنَّ محل النزاع هو حالة الاختلاف في الفتوى.

هذا ما يسعه المقام ونعتذر عن عدم التفصيل أكثر.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج50 / ص100.

2- سورة التوبة / 122.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص131.