﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ هل يدلُّ على الإلجاء والجبر؟
المسألة:
قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(1) إذا كان الله تعالى ترك ابليس مختارًا بين الهداية والغواية، وآثر ابليس الغواية على الهداية .. فأبى السجود وقال ما قال .. فهو الذي أضلّ نفسه وغواها .. فلم جاءت الآية الكريمة بلسان إبليس بأنك يا رب -تعالى عن ذلك- الذي أغويتني، ولأنك أغويتني سأفعل كذا وكذا .. فسيكون هذا منافيًا للعدل.
الجواب:
نعم الظاهر من الآية الشريفة انَّ إبليس نسب الغواية التي وقع فيها إلى الله جلَّ وعلا، وحيثُ إنَّ الظاهر من مدلول الغواية هو الضلال فهذا يقتضي أنْ يكون معنى "أغويتني" هو نسبة الإضلال لله جلَّ وعلا.
إلا انَّه ليس في الآية ما يُشعر بأنَّ الله تعالى قد ارتضى ما ادَّعاه ابليس من نسبة الإضلال لله تعالى، فالآية الشريفة إنَّما كانت بصدد نقل ما ادَّعاه ابليس، وليس فيها ما يدلُّ أو يُشعر بأنَّ الله تعالى قد أقرَّه على دعواه بأنَّ الغواية التي وقع فيها كانت بإلجاءٍ وقسرٍ من الله تعالى.
فقول ابليس ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ كان محضَ افتراءٍ منه على ربِّه جلَّ وعلا، وذلك لوضوح انَّ ابليس لو كان مقسوراً على المعصية وانَّ الله تعالى قد أجبره على الوقوعِ فيها لما سخِط عليه ولما لعنه وطرده من رحمته وتوعَّده بالعقاب الشديد والدائم يوم القيامة، وهذ هو منشأ عدم تصدِّي القرآن في الآية الشريفة لنفي ما ادَّعاه ابليس من انَّ الله تعالى قد ألجئه وأجبره على الوقوع في الغواية والضلال.
إذ يكفي للرد على هذه الفرية ما بيَّنه القرآن من سخط الله على ابليس وطرده إيَّاه من رحمته وبيان انَّ منشأ السخط هو استكباره وتمرُّده على ما أُمر به من السجود لآدم (ع)، قال تعالى قبل الآية المذكورة: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ/ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾(2) فالواضح من هاتين الآيتين انَّ الله تعالى قد اسند صدور المعصية لابليس نفسه، فبعد أن أنكر عليه عدم السجود رغم الأمر ولم يقبل اعتذاره بأنَّه خيرٌ من آدم نسَبه إلى التكبُّر وبيَّن انَّ مشأ عدم امتثاله للأمر المولوي هو ما ينطوي عليه قلبُه من الكِبْر ثم طرده بعد أنْ وصفه بالصَغار فقال تعالى: ﴿إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.
فالآيتان صالحتان للردّ على دعوى ابليس انَّ الله تعالى هو مَن ألجئه وقسَره على الضلال، فإبليس قد ادَّعى ذلك ولكنَّ الله تعالى أفاد انَّ منشأ ضلال ابليس ومعصيته إنما هو كبرياؤه، فوقوعه في الضلال كان بسوء اختياره فهو مَن اختار التكبُّر وما كان له أن يتكبَّر كما أفاد القرآن، فمفاد قوله تعالى: ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ﴾ صريحٌ في انَّ التكبُّر الذي أفضى للمعصية كان بمحض اختيار ابليس ولم يكن ذلك عن إلجاءٍ كما توهَّم ابليس أو كما افترى على الله تعالى، ولهذا كان جزاؤه من جنس عمله وهو التصغيرُ والتحقير قال تعالى: ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.
وكذلك هو الشأن في الآية من سورة الحجر: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(3) فإنَّ هذه الآية وإنْ اشتملت على دعوى ابليس اسناد وقوعه في الغواية لله جلَّ وعلا إلا انَّه يكفي لتكذيب دعواه ما أفاده القرآن قبل هذه الآية من انَّ الله تعالى قد سخط عليه لعصيانه الأمر بالسجود ثم لعنه وطرده من رحمته إلى يوم البعث، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ / قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ / قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ / وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾(4) فلو كان الله تعالى مرتضياً لدعوى ابليس على ربِّه انَّه الجئه وأجبره على الغواية لما أنكر عليه أولاً عدم امتثال الأمر بالسجود قال: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ فإنَّ هذا الاستفهام استنكاري والواضح منه إسناد عدم السجود إلى اختيار ابليس، وكان جواب ابليس متضمِّناً للإقرار بأنَّ عدم سجوده كان باختياره حيثُ نسبَ عدم سجوده لنفسه وعلَّله بأنَّه خيرٌ من آدم (ع) فقال أولاً: ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ﴾ فهو قد أسند عدم السجود لنفسه وهو ظاهر في الاختيار ثم علَّل هذا الإختيار بما يُعبِّر عن كبريائه واعجابه بنفسه واحتقاره لجنس الإنسان ثم إنَّ الله تعالى عاقبه على معصيته بالطرد والرجم باللعنة إلى يوم الدين، وكلُّ ذلك ينفي دعوى ابليس كان مجبراً على الضلال والغواية.
ولهذا لم تكن حاجة بعد نقل دعواه "أغويتني" إلى تكرار النفي والتكذيب لها.
والمتحصَّل انَّ قوله تعالى: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ كان في مقام النقل لما ادَّعاه ابليس، ومجرَّد نقل الدعوى لا يُعبِّر عن قبول الناقل بمؤدَّاها خصوصاً حين يكون الناقل خصماً للمدَّعي وكان في مقام التشنيع والتحذير منه، ثمَّ انَّ ما سبقَ من بيان المنشأ الحقيقي لمعصية ابليس يُغني عن الحاجة للتصدِّي مرةً اخرى لتكذيب دعوى ابليس.
على انَّ قوله تعالى: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾(5) جاء بعد نقل القرآن لدعوى ابليس وذلك يؤكِّد انَّ معصيته نشأت عن سوء اختياره ولذلك استحق أنْ يُخرجه ربُّه ﴿مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الأعراف / 16
2- سورة الأعراف / 12-13.
3- سورة الحجر / 39.
4- سورة الحجر / 32-35.
5- سورة الأعراف / 18.