القرعة في موارد الشبهة المحصورة


المسألة:

لو اشتبه المغصوب -أو محرم الأكل- مثلاً في أطراف بنحو الشبهة المحصورة، فلماذا لا نجري القرعة التي هي لكل أمر مشكل؟


الجواب:

مورد جريان قاعدة القرعة هو الجهل بالحكم الواقعي والظاهري معاً، وعليه فكلُّ موردٍ يكون مجرى لأصلٍ من الأصول العملية فإنَّ القرعة لا تجري في ذلك المورد، وحيث أنَّ المغصوب المُشتبَه بين أطرافٍ محصورة أو المُحرَّم الأكل المشتبَه بين أطرافٍ محصورة مورد لجريان قاعدة الاحتياط العقلي لتنجُّز العلم الإجمالي، لذلك فإنَّ قاعدة القرعة لا تجري في هذا المورد.

 

وأما معنى الإشكال في قولهم: "إنَّ القرعة لكلِّ أمر مشكل" فهو الجهل المطلق بالحكم أي الجهل بالحكم الواقعي والجهل بالحكم الشرعي الظاهري، فإنَّ المورد المعلوم حكمه الظاهري ليس مشكلاً وإلا كان حكم أكثر الموارد مشكلاً، فما عدا القطعيات يكون الحكم الواقعي فيها مجهولاً، فلو كان المراد من الإشكال هو الجهل بالحكم الواقعي فحسب لكانت الموارد كُّلها ما عدا القطعيات محلاً للإشكال، لأنَّ الحكم الواقعي فيها مجهول، والمعلوم فيها إنما هو الحكم الظاهري.

 

فمراد الفقهاء -كما أفاد السيد الخوئي- من قولهم في بعض المسائل: "فيه إشكال" هو عدم وضوح حكمه الظاهري مضافاً للواقعي. ولا يصفون مورداً يكون فيه الحكم الظاهري معلوماً أن فيه إشكالاً وإلا لكان الإشكال وصفاً لأكثر المسائل المعلوم حكمها الظاهري دون الواقعي.

 

والمتحصَّل مما ذكرناه أنَّ قاعدة القرعة لا تجري في مطلق الشبهات الحكمية لأنها مجرى لأحد الأصول العملية، فالحكم المُشتَبه إما أن تكون له حالة سابقة فهو مجرى للاستصحاب بناء على جريانه في الشبهات الحكمية، وإن لم تكن له حالة سابقة فهو شك في التكليف والأصل الجاري في هذا المورد هو البراءة، وإن كان الشك في المكلَّف به فهو مجرى لأصالة الاشتغال، ومع دوران الأمر بين محذورين فالأصل الجاري هو التخيير والذي يرجع روحاً إلى البراءة في طرفي الشبهة.

 

فقاعدة القرعة لا تجري في مطلق الشبهات الحكمية الكلية، وكذلك هي لا تجري في الشبهات الموضوعية التي تكون مجرى لأحد الأصول العملية، نعم لو اتفق لشبهةٍ موضوعية عدم قيام أمارة جارية في موردها ولم تكن مجرى لأحد الأصول فحينئذٍ يكون الجاري هو قاعدة القرعة.

 

ومثاله -كما أفاد السيد الخوئي (رحمه الله)- هو ما لو تداعى اثنان على مالٍ كان في يد ثالثٍ معترفٍ بأنَّ المال ليس ملكاً له، ولم يُعلم للمال حالة سابقة، فلو لم يكن لأحدهما بيِّنه، والمفروض أنَّ كلاً منهما ليس له يد على المال حتى يتمسك بقاعدة اليد، وليس للمال حالة سابقة حتى تُستصحب وليس من أصل جارٍ في المقام ولا قاعدة لذلك كان المتعيَّن هو القرعة.

 

فقاعدة القرعة إنما جرت في المثال نظراً لعدم كون المورد مجرىً لأمارةٍ أو أصل وإلا فإنَّ القاعدة لا تجري لو كان ثمة من أمارةٍ أو أصلٍ جارٍ، نعم تجري قاعدة القرعة في موردٍ يكون مجرى لأصلٍ عملي عند قيام دليلٍ خاص على جريانها في ذلك المورد كما في موطوء الإنسان من الغنم المشتبه ضمن قطيع، فقد ورد أنَّه يُنصَّف القطيع ثم يُقرع بينهما ثم يُنصَّف ما وقعت عليه القرعة، وهكذا حتى يتعيَّن بالقرعة موطوء الإنسان، فهذا المورد لو لم يرد النص الخاص على جريان القرعةِ فيه لكان مجرى لأصالة الاحتياط المقتضية للحكم الظاهري بلزوم تجنُّب جميع القطيع المعلوم اجمالاً بأن بعضه موطوءٌ للأنسان. فلولا النص الخاص لكان البناء هو عدم جريان قاعدة القرعة نظراً لكون المورد مجرىً لأحد الأصول العملية.

 

هذا وقد ذكر بعضُهم وجهاً آخر لمنشأ تقديم سائر الأمارات والأصول على قاعدة القرعة وحاصله أن دليل القرعة وإن كان مقتضياً لجريان قاعدة القرعة في موارد قيام بعض الأمارات والأصول إلا أنَّ المانع من تقديم قاعدة القرعة على هذه الامارات والأصول هو كثرة ما ورد على قاعدة القرعة من تخصيصات بحيث أوجب ذلك وهنَ هذه القاعدة، ونتيجة وهنها هو أنه لا يُصار إلى العمل بها إلا في موردٍ عمِلَ الإصحاب بالقرعةِ فيه، فذلك هو ما يجبر وهنَها ويُصحِّح العمل بها، إلا أن هذا الوجه لا مبرِّر لقبوله وإنَّ ما يُتوهم تخصيصه لقاعدة القرعة هو في واقع الأمر خارج موضوعاً وتخصُّصاً عن قاعدة القرعة، فموضوع قاعدة القرعة هو المُشتَبه أي المجهول المطلق الذي لا يُعلم حكمه الواقعي ولا يجري في مورده ما يكشف عن حكمه الظاهري.

 

ومن ذلك يتضح أنَّ علاقة مثل الأصول مع قاعدة القرعة هي علاقة الوارد والمورود، فأدلة الأصول واردة على قاعدة القرعة ونافية لموضوعها، فموضوع قاعدة القرعة هو المُشتبة ومع قيام الدليل على البراءة مثلاً فإنَّ المورد لا يكون مُشتَبهاً بالوجدان بل هو معلوم الحكم.

 

فقوله (ع) في رواية محمد بن حكيم "كل مجهول ففيه القرعة"(1) معناه أنّ موضوع القرعة هو المورد المجهول الحكم، ومن الواضح أنَّ المورد الذي هو مجرى للبراءةِ مثلاً أو الاستصحاب ليس مجهولاً، فهو ليس موضوعاً لقاعدة القرعة من أول الأمر لا أنه مورد له وقد تمَّ إخراجه بالتخصيص.

 

والحمد لله رب العالمين 

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 260.