حكم المال الموروث المختلط بالربا


المسألة:

لماذا أفتى بعض الفقهاء بأنَّه لو ورث أحدٌ مالاً فيه ربا فإنْ كان مخلوطاً بالحلال فلا شيء عليه، والسؤال لماذا لم يوجبوا تخميسه ليحل لكونه من المال المختلط بالحرام؟


الجواب:

أفتى عددٌ من الفقهاء في الأموال الموروثة المختلطة بأموالٍ ربوية انَّه إذا كانت الأموال الربوية متميِّزة ومعلومة القدر لزم الوارث إيصالها إلى أصحابها إذا كانوا معلومين وإلا فهي بحكم مجهولة المالك ومصرفها الفقراء، وإنْ لم تكن متميِّزة ولم يكن أصحابها معلومين ففي مثل هذا الفرض يكون المال الموروث بتمامه حلالاً للوارث، ولا يجب عليه في ذلك من شيئ.

 

ومستند هذه الفتوى عددٌ من الروايات:

منها: معتبرة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: أَتَى رَجُلٌ أَبِي فَقَالَ: إِنِّي وَرِثْتُ مَالاً وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَه الَّذِي وَرِثْتُه مِنْه قَدْ كَانَ يَرْبُو وقَدْ أَعْرِفُ أَنَّ فِيه رِبًا وأَسْتَيْقِنُ ذَلِكَ ولَيْسَ يَطِيبُ لِي حَلَالُه لِحَالِ عِلْمِي فِيه، وقَدْ سَأَلْتُ فُقَهَاءَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وأَهْلِ الْحِجَازِ فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ أَكْلُه فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ بِأَنَّ فِيه مَالاً مَعْرُوفاً رِبًا وتَعْرِفُ أَهْلَه فَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ ورُدَّ مَا سِوَى ذَلِكَ، وإِنْ كَانَ مُخْتَلِطاً فَكُلْه هَنِيئاً مَرِيئاً، فَإِنَّ الْمَالَ مَالُكَ واجْتَنِبْ مَا كَانَ يَصْنَعُ صَاحِبُه .."(1).

 

ومنها: معتبرة أَبِي الْمَغْرَاءِ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) كُلُّ رِبًا أَكَلَه النَّاسُ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا فَإِنَّه يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِذَا عُرِفَ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ، وقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً وَرِثَ مِنْ أَبِيه مَالاً وقَدْ عَرَفَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْمَالِ رِبًا ولَكِنْ قَدِ اخْتَلَطَ فِي التِّجَارَةِ بِغَيْرِه حَلَالٍ كَانَ حَلَالاً طَيِّباً فَلْيَأْكُلْه .."(2).

 

والإشكال الذي يمكن إيراده على الفتوى بحليَّة تمام المال الموروث في فرض الإختلاط وعدم التميُّز وعدم العلم بالمالك هو انَّها منافية لما يقتضيه العلم الإجمالي من التنجُّز في موارد الشبهات المحصورة، وكذلك هي منافية لإطلاق مادلَّ على انَّ المال المختلط بالحرام لا يحلُّ في فرض عدم تميُّز الحرام وعدم العلم بمقداره وبصاحبه إلا بعد إخراج خمسه.

 

إلا انَّ ما يرد على الإشكال الأول: انَّ المال الربوي المعلوم إشتمال المال الموروث عليه مجهول المالك بحسب الفرض، وعليه فلا محذور عقلاً في إباحته للوارث مِمَّن له الحق في جعل الإباحة وهو المشرِّع كما ثبت ذلك في مثل اللقطة رغم انَّ اللقطة متميِّزة ومعلومة القدر، غايته انَّ مالكها مجهول، فالمشرِّع قد أباحها مطلقاً للملتقِط حينما تكون دون الدرهم وأباحها له وإنْ كانت فوق الدرهم إذا لم تكن معلَّمة, وأباحها على قولٍ بعد التعريف إذا كانت معلَّمة.

 

وأما الإشكال الثاني فهو واضح الدفع، وذلك لأنَّ ما دلَّ من الروايات على انَّ المال المختلط بالحرام يحلُّ بالخمس إنَّما يشمل المال الموروث المختلط بالربا بمقتضى الإطلاق غير الآبي عن التقييد، ولهذا يتعيَّن بعد قيام الدليل على إباحة المال الموروث المختلط بالربا تقييد ما دلَّ على لزوم تخميس المال المختلط بالحرام، فيكون مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين من الروايات هو لزوم تخميس كلِّ مالٍ مختلط بالحرام إلا انْ يكون المال موروثاً وكان الحرام المختلط به من الأموال الربوية.

 

وثمة إشكالٌ آخر يمكن إيراده على مثل معتبرة الحلبي القاضية بحليَّة تمام المال الموروث المختلط بالربا وهو انَّ مثل هذه الرواية لم يعمل بها إلا نادرٌ من الطائفة كما أفاد ذلك صاحب الجواهر(3).

 

ولعلَّه يُشير إلى ما حُكي عن ابن الجنيد (رحمه الله) أنَّه قال: "مَن اشتبه عليه من الربا لم يكن له أن يقوم عليه إلا بعد اليقين بأنَّ ما يدخل فيه حلال، فإنْ قلَّد فيه غيره، أو استدلَّ فأخطأ، ثم تبيَّن له أنَّ ذلك ربا لا تحلُّ له، فإنْ كان معروفاً ردَّه على صاحبه، وتاب إلى الله، وإنْ اختلط بماله حتى لا يعرفه أو ورث مالاً يعلم أنَّ صاحبه كان يُربي، ولا يعلم الربا بعينه فيعزله، جاز له أكله والتصرف فيه، إذا لم يعلم فيه الربا"(4) فإنَّ عبارته تحتمل قوياً الإستناد إلى مثل معتبرة الحلبي، ولم يُنسب لغيره ظاهراً الفتوى بمضمون مثل معتبرة الحلبي.

 

ودعوى انَّ الشيخ الطوسي وأتباعه والمحقق والشهيد وصاحب الحدائق والرياض وكذلك غيرهم يعملون بمفاد معتبرة الحلبي ليست تامة فإنَّهم إنَّما يفتون بعدم وجوب ردِّ المال الربوي في فرض الجهل لوجوهٍ وتفصيل لا مجال لعرضهما في المقام، فما أُفيد من عدم عمل المشهور بمضمون معتبرة الحلبي تامٌ ظاهراً، ذلك لأنَّ مقتضاها حليَّة المال الربوي المختلط بالمال الحلال الموروث حتى مع العلم بعدم جهل المورِّث وعدم توبته.

 

وعليه فبناءً على تماميَّة كبرى انَّ الإعراض من المشهور عن الرواية المعتبرة سنداً موهنٌ لحجيتها تكون مثل معتبرة الحلبي ساقطة عن الحجيَّة، والمرجع بعدئذٍ هي عمومات ما دلَّ على عدم حليَّة المال المختلط بالحرام في الفرض المذكور إلا بعد تخميسه.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 18 ص 129.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 18 ص 128.

3- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج 23 ص 400.

4- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج 23 ص 401